صور
إبراهيم علية السلام
10 - الكبش العظيم
كانت هذه المعجزة اختبارا عظيما, بكل المقاييس, ولكنه اختبار من الله لرجل هو خليله وهو عبده وهو نبي من الصالحين, أي نوع من أنواع الاختبار يا ترى سيجري على إبراهيم الخليل عليه السلام.
نحن أمام نبي يعدّ أبا الأنبياء, وخليل الرحمن, وصفه ربه بالحلم, ونحن أيضا أمام نبي قلبه أرحم قلب على وجه الأرض, فاتسع هذا القلب الكبير لحب الله عز وجل, وحب مخلوقاته, وهذا القلب الرحيم, يمتحن في دقاته دقة دقة ونبضاته نبضة نبضة, لقد كان إسماعيل دقات قلبه, وحبه الكبير, جاءه على كبر من السن, جاءه وهو طاعن في السن ولا أمل هناك في أن ينجب ثم يأتيه الاختبار الصعب في هذا الابن والذي هو قرّة عينه ونبضة قلبه.
ويجيء الأمر والاختبار أثناء النوم, لم يكن وحيا مباشرا فما إن استسلم إبراهيم عليه السلام للنوم حتى رأى في المنام أنه يذبح ابنه وبكره و وحيده الذي لم ينجب غيره.
ترى ماذا حدث في هذه الرؤيا؟ لقد رأى إبراهيم عليه السلام في نومه هاتفا يهتف قائلا:
يا إبراهيم؛ اذبح ابنك في سبيل الله.
ترى ماذا فعل إبراهيم عليه السلام بعدما سمع هذا الهاتف؟ لقد هبّ عليه السلام من نومه مذعورا, واستعاذ بالله من مكر الشيطان, ثم عاود نومه مرة أخرى, فعاوده الهاتف أيضا يهتف قائلا:
يا إبراهيم اذبح ابنك في سبيل الله.
فهبّ إبراهيم عليه السلام قائما, وقد صحّ عنده أن الهاتف من عند الله عز وجل, وتحقق أن الله يأمره بذبح ابنه الحبيب إسماعيل.
من الخطأ أن يظن الإنسان أن صراعا من نفس إبراهيم لم ينشأ بعد هذه الرؤيا, فهذا بلاء مبين, لا بدّ أن ينشأ في النفس من أجله صراع طويل, نشب هذا الصراع في نفس إبراهيم عليه السلام, صراع الأبوّة الحانية والقلب الذي حمل أكبر قدر من الرحمة والحلم, فكّر إبراهيم في الأمر وتدبّر, وتراجع كل شيء إلا شيء واحد وهو الإيمان بالله, فهكذا أراه الله في المنام, وبهذه الرؤيا يكون الأمر بالتنفيذ من الله, ورؤيا الأنبياء حق, فلينفذ إبراهيم عليه السلام أمر ربه, فكله خير, فإذا كان التفكير يقتصر على إسماعيل الابن ومخاطبة قلب إبراهيم لنفسه, فان هذا الأمر لا بد وأن يتراجع إلى الخلف.
أزاح إبراهيم كل هذا من تفكيره, وصوّب فكره لاتجاه واحد يقول: نفذ أمر حبيبك يا إبراهيم..
كل ما فكر فيه إبراهيم عليه السلام, كيف يفاتح ابنه في الأمر وماذا يقول عنه إذا أرقده الأرض ليذبحه.
من الأفضل أن يقول لولده ليكون ذلك أطيب لقلبه وأهون عليه من أن يأخذه قهرا ويذبحه قهرا.
وصل إبراهيم إلى هذه القناعة, لا بد أن يكون صريحا وواضحا مع ابنه.
جاء إبراهيم إلى ابنه, فقال له: يا بنيّ خذ الحبل والسكين وانطلق بنا إلى هذه الهضبة لنجمع الحطب.
أطاع إبراهيم عليه السلام, وفعل ما أمره به أبوه, وتبعه إلى الهضبة التي أشار إليها والده, كان إسماعيل غلاما مطيعا لا يعصي أباه أبدا, مضى إلى هناك حيث أمره ووقف إبراهيم أمام ابنه إسماعيل عليهما السلام وقد أصبح الاثنان في خلوة لا يراهما أحد إلا الله سبحانه عز وجل, عندئذ قال إبراهيم لابنه إسماعيل:
{ يا بنيّ إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى, قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}. الصافات 102.
انظر إلى تلطف إبراهيم في إبلاغ ولده هذا الأمر, وتركه للأمر لينظر فيه الابن بالطاعة, إن الأمر مقضي في نظر إبراهيم لأنه وحي من ربه.. فماذا يرى الابن الكريم في ذلك؟ وجاءت إجابة إسماعيل بنفس جواب إبراهيم عليه السلام هذا أمر يا أبي, انه أمر الله, فبادر بتنفيذه, وجاء الرد في القرآن على لسان إسماعيل يقول:
{ يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين}.
انظر إلى هذا الشق من المعجزة, انه ردّ الابن, إنسان يعرف أنه سيذبح فيمتثل للأمر الإلهي ويقدم المشيئة ويطمئن والده أنه سيجده.. إن شاء الله.. من الصابرين.
فلما تناول إبراهيم عليه السلام من إسماعيل الحبل ليوثقه والسكين في يده ليذبحه, قال إسماعيل له:
يا أبتاه, إذا أردت ذبحي فاشدد وثاقي لئلا يصيبك شيء من دمي فينقص أجري, إن الموت لشديد, ولا آمن أن أضطرب عند الذبح إذا أحسست مس السكين, واشحذ شفرتك حتى تجهز عليّ سريعا, فإذا أنت أضجعتني لتذبحني, فاكببني على وجهي, ولا تضجعني لجنبي, فاني أخشى أن أنت نظرت إلى وجهي أن تدركك رقة, فتحول بينك وبين تنفيذ أمر ربّك فيّ, وان أردت أن تردّ قميصي على أمي فافعل, فعسى أن يكون هذا أسلى لها.
فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بني على أمر الله.
ثم شحذ إبراهيم شفرته, وأحكم وثاق ابنه, وكبّه على وجهه أعلا جبينه إلى الأرض متحاشيا النظر إلى وجهه, وبسمل واستشهد ثم همّ بذبحه, ولم يكد يسحب السكين على قفا ابنه ليذبحه, حتى سمع مناديا ينادي, ماذا يقول المنادي إذن؟ انه يبشر بالمعجزة الكبرى.
قال المنادي يا إبراهيم؛ قد صدقت الرؤيا, فافتد ابنك بذبح عظيم..!!
نظر إبراهيم عليه السلام إلى حيث سمع المنادي, فوجد بجانبه كبشا أبيض أعين أقرن, فعرف أن الله سبحانه عز وجل قد أرسل هذا الكبش فداء لابنه إسماعيل, وقيل إن هذا الكبش رعى في الجنة أربعين خريفا الطبري في الريخه 1\277, وكان يرتفع في الجنة حتى تشقق, وكان له ثغاء, وقيل انه الكبش الذي قرّبه هابيل ابن آدم فتقبّل منه, تاريخ الطبري.
أخلى إبراهيم ابنه من وثاقه, وهو يقبّله باكيا من شدة الفرح ويقول: يا بنيّ؛ لقد وهبت لي اليوم من جديد.
ثم أوشق الكبش جيدا, وذبحه شاكرا ربه, وكان هذا البلاء العظيم الذي ابتلى الله به إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام هو اختبار عظيم, ومعجزة بكل المقاييس من المعجزات التي ساقتها إرادة الله عز وجلّ لهما, وقد ضرب إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام المثل العظيم في الرضا والتسليم بقضاء الله وقدره, والطاعة الخاشعة المؤمنة لأمر الله, فوهبهما الله هذه المعجزة الكريمة, والأضحية المباركة. وقد تحدّث القرآن الكريم عن هذه المعجزة في لحظتها الحاسمة فقال عز وجل:
{ فلما أسلما وتلّه للجبين} الصافات 103.
قيل: أسلما:أي استسلما لأمر الله وعزم على ذلك فما إن ألقاه إلى وجهه:
{ وناديناه أن يا إبراهيم* قد صدّقت الرؤيا, إنا كذلك نجزي المحسنين* إن هذا لهو البلاء المبين* وفديناه بذبح عظيم}. الصافات 104-108.
هذا هو الإسلام الحقيقي, الذي ضرب فيه إبراهيم وإسماعيل ابنه المثل العظيم, فكان جزاء الله لهما عظيما, لأنهم أحسنوا عبادة الله, وأحسنوا طاعة الله, ونجحوا في اختبار صعب شمل المصاعب التي تهزم قوى الإنسان وتجعله يخرّ صريعا أمامها, ولكن بقدر ما كان للأب من إيمان مدهش وصبر عظيم وتسليك قانع راض بهذا القدر كان للابن الغلام الصغير.
إن إبراهيم عليه السلام كان معجزة إيمانية سلوكيّة, وإسماعيل ضرب مثلا في الطاعة فكان مدهشا في رباطة جأشه ووصوله إلى مدى بعيد الطاعة.
إن الموقف كله معجزة, ولم يكن الكبش وحده هو المعجزة, الأب, الابن, الكبش, مشيئة الله, كل هذه الأطراف صنعت معجزة هائلة لن تنساها البشريّة.
وإلى اللقاء مع نبي آخر إن شاء الله
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته