مرّت الأيامـ والأسابيع والشهور ، وها هو ذا شهر كانون الثاني ( يناير )
قد أقبل صاحبًا معه فصل الشتاء ببرده الشديد ، وثلوجه الكثيفة ، وصقيعه المجمّد ..
أغلقت المدارس أبوابها معلنة بذلك بدأ إجازة نصف العامـ الدراسي ،
الممتدة لأسبوعين اثنين ..
أخذت تقلّبُ صفحات الكتيّب الصغير الذي بين يديها ، تقرؤ باستمتاعٍ حلوَ النكت ،
وتضحك إذا ما صادفتها نكتةٌ مسليّةٌ .
قطع تسليتها صوت طرق باب غرفتها ، تساءلت من يطرق بابها ، وضعت كتيّبها على
سريرها ، ونهضت تفتح الباب ، ليظهر أنه هشامـ ..
دخل واضعًا يده على شعره يتحسسه ,, بدا أنه مرتبكٌ بعض الشيء ..
قال مخاطبًا شقيقته : " عبير .... هلاّ أعطيتني آلتكِ الحاسبة ؟ "
ردّت وعلى وجهها علامات الشك ممتزجة بالسخرية : " وأين هي آلتكَ ؟! "
أجاب هشامـ بتماطل : " يمكنكِ القول أنهــا ......... "
قاطعته عبير بحاجبٍ مرفوعِ للأعلى : " ضــــــاعت "
ابتسمـ هشامـ بارتباك ، وقال : " بالضبط تمامًا ، أرجوكِ .... أنا في أمسِّ الحاجة إليها "
تنهّدت عبير ...
استدارت معطيةً بذلك ظهرها لهشامـ ، وهي تقول : " أمن أجل هذا الطلب قطعتَ تسليتي ؟ "
لمـ يجب شقيقها ، بل اكتفى برسمـ علامات الضجر من حديثها على وجهه ...
أردفت قائلةً : " في مكتبي ستجدها ، ولكن أرجعها بسرعة "
تناولها هشامـ وهو يقول : " طيب طيب ... شكرًا "
"مهلاً يا هشامـ ..... " قاطع ما قالته عبير مغادرة شقيقها ، استدار إليها ،
رأى على وجهها مزيجًا من علامات الحزن والتساؤل ..
سألها : " ما بك ؟ "
فأجابت : " أرى أن الحرب قد خمدت ، فما رأيكَ أنت ؟ "
تغيّرت ملامح وجه هشامـ .. صمت قليلاً ، ثمـ أجاب : " لا أعلمـ إذا ما كان مؤشرًا جيدًا ،
أمـ أنه هدوء ما قبل العاصفة "
فجأةً ، علا كثيرًا صوت إغلاق الباب الأمامي للمنزل ، فزع الإثنان، أسرع هشامـ
إلى النافذة ، فرأى والده خارجًا من المنزل يركب سيارته منطلقًا وسط الثلوج ..
قطّب هشامـ حاجبيه و أحكمـ قبضته على ستارة النافذة ، رأت عبير حركته تلك ، استلقت على سريرها ،
نظر إليها شقيقها ، أخذت تحرك خصلات شعرها الأسو الناعمـ اللامع بيدها البيضاء ،
أغمضت عينيها وقالت : " يبدو أنه الخيار الثاني يا أخي ..... "
وأردفت : " هدوء ما قبل العاصفة "
•••
وضعت وشاحها الصوفيّ على ركبتيها العاجزتين ، أمسكت بخمارٍ كان موضوعًا على سريرها
لتضعه على رأسها ، تقدّمت بكرسيها المتحرك إلى شرفتها .
انتابها البرد الشديد ، أخذت ترحك يدها اليمنى على ذراعها اليسرى برقةٍ شديدةٍ ..
تقدمت أكثر من سياج الشرفة ، أحبت منظر الثلوج وهي تتساقط مغطية شوارع المدينة ،
أدخلت يدها في حقيبة عُلِّقَتْ في كرسيها ، لتخرج منها كاميرا رقميةً صغيرةَ الحجمـِ ..
أخذت تلتقط صورًا للثلوج المتساقطة ..
اتجهت صوب زاوية الشرفة لتلتقط صورًا للشارع المقابل لها ، رفعت الكاميرا حتى ترا ما تلتقطه ،
لمحت شابًا يسير في رصيف ذاك الشارعِ ، بدت أنها تعرفه ..
أزالت الكاميرا لترى من ذاك .. لمحت شعرصا بنيًا فاتحًا ،وقامةً طويلةً ،
يحمل كيسًا كمثل أكياس المتاجر الغذائية رددت في نفسها : " إنه علــــــي ! "
قطّبت هبة حاجبيها ... وقالت بصوتٍ أشبه بالهمس : " رانيـا ... "
سقطت الكاميرا من بين يديها ، ورددت : " عقبةٌ في طريقي "
•••
فتح باب منزله ، أزال الثلج الساقط على كتفيه ، اتجه صوب المطبخ ووضع الكيس الذي
كان معه فوق المنضدة .
خلع سترته ليضعها على الأريكة حيث تجلس أمه ، وجلس بجوارها يشاهد التلفاز ..
نظر صوب الطاولة التي تتوسط مجلس الدار ، كان عليها كتاب العلومـ للفصل الدراسي الثاني ،
أمسكه وأخذ يتفحص صفحاته باهتمامـ ..
ظهرت ابتسامة على وجهه تشير إلى المتعة التي انتابته لذا قراءته لما يحتويه الكتاب ،
التفتت إليه والدته ، ابتسمت ، وقالت : " والدكَ من اشتراه لك "
أومأ علي لوالدته ، وقال : " دائمًا أول ما يصلني هو كتاب العلومـ "
نهض من مكانه حاملاً معه الكتاب ، سألته والدته : " إلى أين ؟ "
فأجابها : " أحب أن أبدأ فيه من الآن "
ابتسمت ، وعادت تشاهد التلفاز ..
وقف عمر أمامـ شقيقه ، يحمل شوكولا في يده ، وعلى وجهه بقايا منها ،
مدّ يده التي بها الشوكولا ، ردد مبتسمًا : " خذ ..... ألي ( علي ) "
أخذ علي ينظر إليه ، جفا على ركبتيه ، وضع يده على شعر شقيقه البني الفاتح ،
وأخذ يحركها عليه متخللاً خصلاته ..
قرّب عمر يده من فمـِّ شقيقه ، إلاّ أنه أبعد وجهه عنه وهو يقول : " شكرًا لا أريد "
لكنّ الصغير أخذ يلحُّ على علي بأن يأكل ، حاول الاخير أن يبعد يدي شقيقه بدون أن يجرح مشاعره ،
فأزاح يده عنه لترتطمـ بكأس ماءٍ كان على الطاولة الصغيرة ، فانسكب الماء على وجهه ..
نهض علي غاضبًا من مكانه ، صرخ في وجه أخيه : " سحقًا ..... ماذا فعلت؟ "
فزع الصغير من صراخ شقيقه ..
لمعت الدموع في عينيه ، لتسقط على خدّه المحمر دمعة حزنٍ انتابه ..
وضع الشوكولا أما وجهه يحاول إخفاءه بها ..
أمسكت الأمـ بصغيرها ، وضمته إلى صدرها ، التفتت إلى علي .،
وقالت له : " أُنظر إلى نفسك في المرآة ، لا ألومه على فزعه منك "
أجاب وعيناه إلى الأرض : " حاولتُ قدر المستطاع ألا أجرحه "
ردّت : " إلاّ أنكَ في النهاية تسببتَ في بكائه ، لمـ يُرِد إلا مشاركتكَ له في الشوكولا "
ذهبت وفي حضنها عمر باكيًا ، تاركةً علي بمفرده .
•••
أخذت تشرب من كاس عصيرها ، عضت بأسنانها المقشة التي تشرب منها ،
التفتت إلى صديقتها ..
وقالت : " هيي وصال ... أما تزالين على رأيكِ بها ؟ "
قالت وصال : " رأيي بمن ؟ "
أجابت : " بـرانيا "
التفتت إليها وصال ، وقالت : " وما بها ؟ "
قالت : " أما تزالين تريدين صداقتها ؟ "
أجابت : " استمعي إليّ جيدًا يا أمل ، رانيا لمـ تؤذني إلاّ عندما آذيتها ،
كما لا تنسي يومـ جرح ذراعي ، لا أستطيع أن أؤذيها في حين أن ساعدتني هي "
ردّت أمل : " هراءٌ ما تقولينه "
نظرت إليها وصال باستغراب ، وقالت : " ما قصدك ؟ "
ابتسمت أمل : " ربما هي كما تقولين ، لكن لا تنسي أن عبير معها ،
ولا تنسي أيضًا يا عزيزتي العدواة التي بينكِ وبينها ، منذ الصف السابع إلى اليومـ "
قالت وصال : " وماذا يعني ذلك ؟ "
أجابت : " لمـ أعلمـ أنكِ أصبحتِ بهذه السذاجة ! فكري في الأمر ,,
عبير تكرهكِ ، و لا تفارق رانيا البتة ، في رأيكِ ماذا يعني ذلك ؟ .. أقصد ما نتيجة ذلك ؟ "
أجابت : " أجيبي أنتِ ... لمـ أعرف الجواب "
ردّت أمل بتأفؤفٍ : " يا غبية ! لا شكّ أنها ستحرض الأخرى ضدك ..
ولن أستغرب إذا ما جعلتها تعتدي عليكِ بالضرب ،
هذا إن لمـ تشوّه سمعتكِ في المدرسة قبل ذلك "
صمتت وصال ... بدا التفاجؤ واضحًا على وجهها ، ابتسمت أمل لذا رؤيتها لصديقتها بذلك الوضع
ورددت في نفسها : " ابتلعت الطمع "
إلاّ أن وصال سرعان ما قالت : " مستحيل ... ليست رانيا "
أجابت أمل : " كما تشائين .. لكن لا تلجئي إليّ إذا ما آذتكِ "
ردّت وصال : " أتظنين أن ما تقولينه سيحصل ؟ "
أجابت أمل بابتسامة خبيثة : " يا عزيزتي .. لا تنخدعي لمن يحسن إليكِ دون مقابل ،
لستُ ممن ينخدعون بأمثال رانيا ، ثقي بي .. إن اتبعتِ ما أقوله لكِ ، فلن تستطيع النيل منكِ "
حركت وصال راسها يمنةً ويسرةً وهي تحدث نفسها : " لا يمكن ، ليست رانيا من يفعل ذلك "
إلاّ أن التردد سرعان ما ظهرعلى محياها ، بلعت لعابها ،
وأخذت تنظر إلى كأس عصيرها بشودٍ .,
رددت تخاطب نفسها :
" لكـــــن ماذا لو صدقت أمـــل .... وآذاتني كما تقول ؟ "
•••
بدأت النيران تشتعل في بيت عبير ،
والشك يعتصر قلب وصال ،
أما علي فتأنيب الضمير يكفيه عذابًا ...
تابعي ..